قال المؤلف رحمه الله (فصلٌ)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان شروط الاقتداء.
قال المؤلف رحمه الله (ويجبُ علَى كُلِّ مَنْ صلَّى مقتديًا في جمعةٍ أَوْ غيرِها أَنْ لا يتقدّمَ علَى إِمامِهِ في الموقفِ وَالإحرامِ بل تُبطلُ المقارنةُ في الإحرامِ وتُكرَهُ في غيرِهِ إلا التأمينَ)
الشرح يجب على من أراد الصلاة مقتديًا بغيره سواءٌ كان في جمعة أو غيرها أن يُراعيَ شروطَ الاقتداء في إمامه الذي يريد الاقتداء به وهي ستةٌ:
الأول أن لا يعلم بطلان صلاته1 فإِن علم بطلان صلاته بحدث أو غيره بأن علم على ثوبه نجاسة غير معفو عنها واقتدى به فسدت صلاته لتلاعبه.
والثاني أن لا يظن البطلان فلو اجتهد اثنان في القِبلة فاختلف اجتهادهما فليس لأحدهما أن يقتديَ بالآخرِ فإن اقتدى أحدُهما بالآخر بطلت صلاةُ المقتدي2.
والثالث أن لا يعتقد وجوب القضاء عليه كمُتيمّمٍ لفقد ماءٍ بمحلٍّ يغلب فيه وجوده فلا يصحُّ أن يقتدي بمن علمه متيممًا لفقد الماء في هذا المحل لأنه لا بُدَّ له من القضاء، ومثله من كان وضع جبيرة على موضع التيمم.
والرَّابع أن لا يَشُكَّ في كونه مأمومًا أو إمامًا فيحرم الاقتداءُ بمن شَكَّ فيه هل هو إمامٌ أو مأموم وبالأولى إن علِمَ أنه مأموم3 وهذا إن كان اقتدى به قبل انقضاء صلاة إمامه أما بعد انتهاء صلاة الإمام فإن اقتدى بمن كان مأمومًا مسبوقًا صحت قدوته مع الكراهة إن علم بالحال، فلو رأى اثنين وشكَّ أَيّهما الإمام لم يصح الاقتداء بأحدهما ولو اجتهد في ذلك4. والخامس أن لا يكون أُمّيًّا لا يحسن الفاتحة كأن يَعْجِزَ عن حرفٍ من حروف الفاتحةِ أو عن إخراجه من مخرجه.
والسَّادس أن لا يقتدي الذكر بالمرأةِ5 والخنثى المشكل.
تنبيه. المرأة يصح أن تقتدي برجلٍ وخنثى وامرأة6، وأما الخنثى فيقتدي بالرجل دون المرأة.
وقول المؤلف "أَنْ لا يتَقدّمَ على إمامِهِ في الموقفِ والإِحرامِ بل تُبطِلُ المقَارنةُ في الإحرامِ وتكرَهُ في غيرِهِ إلا التأمينَ" فيه ذكر أمورٍ من الشروط الأولُ منها أن لا يتقدَّم على إمامه في الموقف ، والعبرةُ بالتقدّم بعقب الرِّجل7 في القائم المعتمد عليها فإن تقدّم بعقبه على الإِمام لم تصحَّ صلاته ، والثاني المتابعة له في التَّحرُّم فيجب أن لا يتقدَّم عليه بتكبيرةِ الإِحرام بل تُبطِلُ المقارنة للإِمام يقينًا أو شكًّا بالإِحرام فيجب تأخيرُ جميعِ تكبيرة المأمومِ عن جميع تكبيرة الإِمام8. وأمَّا المقارنةُ في غيره من سائر الأفعال فمكروهةٌ9 وتفوت بها فضيلة الجماعة، ويُستثنى ممَّا ذُكِرَ التأمين أي قولُ ءامين فالأفضلُ فيه المقارنة10 أي لا يسبقه ولا يتأخَّر عنه .
قال المؤلف رحمه الله (ويحرُمُ تقدُّمُهُ بركنٍ فعليٍّ)
الشرح من أحكام الجماعة أن لا يتقدّم المأمومُ على الإِمام بركنٍ فِعليٍّ فتقدُّم المأموم على الإِمام بركنٍ فعليّ كالركوع والسجود حرامٌ وهو من الكبائر11. ومعنى السبق بركن فعلي أن يكون الإِمام في القيام فيسبقه المأموم فيركع ثم يرفع رأسه فهذا حرامٌ من الكبائر ولا تبطل الصلاة بذلك فلو سبق الإِمامَ ببعض الركن لا بِكُلِّه كأن ركع والإِمامُ قائمٌ فانتظر في الركوع حتى ركع الإِمامُ فهو مكروه12.
قال المؤلف رحمه الله (وتبطلُ الصلاة بالتقدّمِ علَى الإِمامِ بركنين فعليينِ متواليينِ طويلين أو طَويلٍ وقصيرٍ بلا عذرٍ13)
الشرح: ذلك كأن يركع المأموم ويعتدل ويهويَ للسجود والإِمامُ قائم، ومثلُه أن يركعَ المأموم قبل الإِمام فلمَّا أراد أن يركع رفـع فلمَّا أراد أن يرفع سجد فلم يجتمـع معه في ركوع ولا اعتـدال فهذا أيضًا تقدُّمٌ على الإمـام بركنين فعليَّين.
قال المؤلف رحمه الله (وكذا التأخُّرُ عنهُ بِهِما بغيرِ عُذرٍ)
الشرح لو رفع الإِمامُ رأسه من الركوع واعتدل وبدأ بالهُوِيّ للسجود والمأموم بعد قائم لم يركع بلا عذر فهذا تأخُّرٌ عن الإِمام بركنين فعليين
قال المؤلف رحمه الله (وبأكثرَ مِنْ ثلاثةِ أركانٍ طويلةٍ ولوْ لعذرٍ فلو تأخّرَ لإتمامِ الفاتحةِ حتى فرغَ الإمامُ من الركوعِ والسجودَيْن فجلسَ للتشهّدِ أو قام وافقَ الإمامَ فيما هو فيهِ وأتى بركعةٍ بعدَ سلامِ إمامِهِ وإن أتمّها قبلَ ذلك مشى على ترتيبِ نفسِهِ)
الشرح أنّ من مبطلات الصلاة التأخرَ عن الإمام بأكثر من ثلاثة أركان طويلة كالركوع والسجودين كأن ركع الإمامُ ثم اعتدل ثم هوى للسجود فسجدَ السجود الأول والسجود الثانيَ وقعد للتشهُّد14 فإذا كان لم ينته من قراءة الفاتحة ترك ترتيب نفسه ووافق الإمام فيما هو فيه15 وفاتته ركعة فيأتي بركعة بعد سلام إمامه وإلا بأن لم يتابع الإمام ولا نوى مفارقته بل استمر على ترتيب نفسه فهذا تبطل صلاته لأنه تأخّر بأكثرَ من ثلاثة أركان طويلة ولو كان تأخُّره لعذرٍ كأن كان ناسيًا أنّه في الصلاة أو أنه مُقْتَدٍ أو كان بطيء القراءة أي لا يساعده لسانه على السُّرعة16.
بيان. إنَّما شرطوا الرّكن الفعليّ لأن التقدّم بالركن القوليِّ غير السلام لا يحرمُ ولا يبطل الصلاة كالتقدُّم بالفاتحة قبل أن يبدأ الإمام بها أو بالتشهُّد الأخير قبل أن يبدأ الإمام به فإِذا قرأ المأموم الفاتحة وأنهاها والإمام بعدُ لم يشرع في قراءتها ثم اكتفى المأموم بتلك القراءة لم يحرم ذلك ولم تبطل صلاته لكنه ارتكبَ الكراهةَ إلاَّ أَنَّ التقدم بتكبيرة الإحرام على الإمام يمنعُ صحَّة القدوة فيبطل الصلاة فمن أراد الاقتداء بإِمامٍ فكبَّر قبله تكبيرةَ الإحرام مع نية الاقتداء به لم تصحَّ صلاته إِلا أن يعيد التكبيرة بعد تكبيرةِ الإِمام، وكذا السلامُ عمدًا قبل الإمام يبطل الصلاة17 إلا أن ينوي المفارقة فيسلِّمَ قبله فإِنَّ صلاته لا تبطل.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ يعلمَ بانتقالاتِ إمامِهِ)
الشرح من شروط القدوة علمُ المأموم بانتقالات إمامه قبل شروعِهِ في الركوع ليتمكّن من المتابعة. ويحصل هذا العلم برؤية الإمام أو بعضِ المأمومين ممن يرى الإمام أو بسماع الصوت من الإمام18 أو من المُبَلِغِ19.
قال المؤلف رحمه الله (وأن يجتمعا في مسجدٍ وإلا ففي مسافة ثلاثمائة ذراع يدويّة)
الشرح من شروط القدوة أن يجتمع الإمامُ والمأمومُ في مكانٍ مسجدٍ أو غيره من فضاء أو بناء أو أحدُهما بمسجدٍ والآخرُ بغيره فإن كانا في مسجدٍ صحت القدوة وإن بعدت المسافةُ جدًّا كأن كانت المسافةُ بين الإمام والمأموم أربعمائة ذراعٍ أو أكثر ، وإنْ كانا في غير ذلك كأن كانا في فضاء اشتُرط أن لا تزيد المسافةُ بين الإمامِ والمأموم على ثلاثمائة ذراع بذراع الآدميِّ المعتدل تقريبًا، فإن كان المأمومون صفوفًا متتابعة اشتُرط أن لا تزيد المسافة بين الصف الذي فيه المأموم والصف الذي قبله على ثلاثمائة ذراع وإن بلغَ ما بين الإِمام والصفِّ الأخير فراسِخَ بشرط إمكان المتابعة20. فإن لم يرَ الإمام اشتُرط عدم تقدّمه على مَنْ يربط له صلاتَه بصلاة الإمام لأنه له كالإمام21.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ لا يحولَ بينَهُما حائلٌ يمنعُ الاستطراقَ)
الشرح يُشترطُ لصحة القُدوة عدمُ وجود حائلٍ بين الإمامِ والمأموم22 يمنع المرورَ إلى الإِمام أو رؤيةَ الإمامِ أو من خَلْفه كجدارٍ أو بابٍ مُغْلقٍ أو مردودٍ لمنعه الرؤية أو شُبَّاكٍ لمنعه الاستطراق أي المرور23.
قال المؤلف رحمه الله (وأن يتوافَقَ نظمُ صلاتَيْهِما فلا تصحُّ قدوةُ مصلِّي الفرضِ خلفَ صلاةِ الجنازةِ)
الشرح من شروط الجماعة والقدوة توافقُ نظمِ صلاة الإِمام ونظم صلاة المأموم بأن يتَّفقا في الأفعال الظاهرة24 وإن اختلفا عددًا ونيةً فإن اختلفا في ذلك كمكتوبة اقتدى فاعِلُها بمن يصلِّي صلاةَ الجنازة فإنها لا تصح بهذه الكيفيَّة لتعذُّر المتابعة
ويصحُّ اقتداء القاضي مع المؤدِّي لكنَّ الانفراد أفضلُ من هذه الجماعة25.
قال المؤلف رحمه الله (وأنْ لا يخالف الإمام في سنّةٍ تفحُشُ المخالفةُ فيها فعلاً كالتشهّدِ الأول أي جلوسِهِ وتركًا كسجود السهو)
الشرح من شروط القدوة أن لا يخالف المأموم الإمام في ترك سنّة بحيث تفحش المخالفةُ من المأموم للإِمام كأن ترك الإِمامُ التشهُّد الأول وفعله المأموم فإن صلاة المأموم تبطل إن كان عالِمًا بالحرمة وتعمَّد ذلك ولو لحقه عن قربٍ لتركه المتابعة المفروضة وأما إن كان جاهلاً بحرمة ذلك فلا تفسد صلاته، أمَّا لو أتى الإِمامُ بالتشهُّد الأول وتركه المأموم عمدًا لم تبطل صلاةُ المأموم لأنه خرج من فرضٍ إلى فرض ولو فعل ذلك سهوًا لزمه العود وإلا بطلت. ولو قام الإمام من غير أن يجلس للتشهد ثم عاد ناسيًا لم يَجُز للمأموم أن يعود معه إلى القعود بل ينتظره قائمًا أو يفارقه بالنية26
وإن سجد الإمام للسهو لزم المأمومَ متابعتُهُ فلو لم يفعل وانتظره قاعدًا بطلت صلاته27. وأَمَّا المخالفة في سُنَّة لا تفحش المخالفةُ فيها كجِلسة28 الاستراحة فلا تضرُّ لأنها يسيرةٌ29.
قال المؤلف رحمه الله (وأن ينويَ الاقتداءَ معَ التحرمِ في الجمعةِ وقبل المتابعةِ وطول الانتظار في غيرِها30)
الشرح من شروط القدوة أن ينوي المأمومُ القدوة أو الجماعة في التكبيرة أو فيما بعدها، و في تكبيرة التحرم في الجمعة والصلاةِ المعادة والمجموعة للمطر31 فيُشترط في هذه المذكورات نيةُ الاقتداء في أثناء تكبيرة التَّحرُّم وكذلك المنذورةُ جماعة، وما سوى هؤلاء الأربع يشترط فيه أن تكون النيّةُ قبل المتابعة بحيث لو تابَع بلا نيةٍ فسدت صلاته أي إن طال انتظاره بخلاف ما إذا انتظره انتظارًا طويلاً بلا متابعة فإنه لا تفسد صلاته، أي أنَّ الذي يتابع شخصًا لم ينوِ الاقتداء بهِ قصدًا أي يَنْتَظرُ ركوعَهُ فَيَرْكَعُ بعد ركوعه أو ينتظر سجوده فيسجد بعد سجوده كأنّه مأموم وهو ليس بمأموم فسدت صلاته إن طال انتظاره، بخلاف ما لو تابعه اتفاقًا أي مصادفةً لا بقصدٍ فإِنَّ صلاته لا تفسد ولا تُفْسِدُ متابعتُه في الأقوال إلا في السلام، وكذلك إن انتظره انتظارًا طويلاً ولم يتابعه في الفعل فلا تفسد صلاته32.
قال المؤلف رحمه الله (ويجبُ على الإمامِ نيّةُ الإمامةِ في الجمعةِ والمعادةِ وتسنُّ في غيرِهما)
الشرح أنه لا تشترط نية الإمامة أو الجماعة من الإمام بل يسنُّ له ذلك فلو تركها أي نيّةَ الإمامة لم يَحُزْ فضيلة الجماعة، وهذا في غير الجمعة فإن تركها في الجمعة لم تصح جُمُعَتُهُ. وكذلك يجب على الإمام نية الإمامة في التكبير في الصلاة المعادة وفي المجموعة للمطر.
قال المؤلف رحمه الله (والمعادة هي الصلاة التي يصليها جماعةً مرة ثانية بعد أن صلاها جماعة أو منفردًا33)
الشرح أنه من صلّى منفردًا أو جماعة ثم رأى مَنْ يُصلِّيَ معه جماعةً يُسنّ له إعادتها لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه فقال «ما منعكما أن تُصليا معنا» قالا صَلَّينا في رحالنا فقال «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصلياها معهم فإنها لكما نافلة» رواه أبو داود وغيره وصححه الترمذي وغيره.
وتكون نية المعادة بأن يقول في قلبه مثلاً أُصلي فرض الظُّهر معادًا جماعة34.
-------------